من الإهتمامات الرائعة التي يمكن لخبرة الحياة أن تنشئها في نفوسنا هو الإهتمام بالتعليم وذلك لكونه من العوامل الأساسية لرقيّ الأمم أو انحطاطها.. لازلنا نتذكّر ذلك الحفل الملائكي الذي أقيم خصّيصا بمناسبة خلق آدم عليه السلام.. وفيه علّم الله آدم الأسماء كلّها..
لازلنا نذكر أوّل كلمة اهتز لها غار حراء وفزع لها الجسد الطاهر لحبيبنا المصطفى: اقرأ
لازلنا نذكر جهاد الرسول عليه الصلاة والسلام في تعليم الصحابة الكرام بشتى الوسائل والطرق الحكيمة..
لازلنا نذكّر تلك الصورة المؤثرة جدا لذلك الفصل الدراسي الذي أنشئ وسط الدمار في مدينة هيروشيما اليابانية بعد قصفها من طرف الأميين الجهلة الذين يعيثون في الأرض فسادا..
لازالت صورة ذلك القسم الذي اتّخذ من الخيمة مستقرا له وسط الدمار الذي لحق بغزة في السنة الماضية.. والكثير الكثير من الصور التي لا يمكن أن ننساها أبدا لما تحمله من قوة الدلالة التي تعجز عنها الكلمات..
كل هذا وغيره يؤكّد على قداسة معنى التعليم الذي هو لبّ الحياة وشريانها، فالأمم التي تمرّ بالأزمات تدرك جيّدا هذا المعنى وتستيقن أن رأس مالها الحقيقي هو الإنسان لذلك فعملية تعليمه لا يمكن أن تتوقّف ولو توقّفت جوانب الحياة الأخرى..
اليابان: ذلك البلد الرائد في الجزء الشرقي من العالم، والذي غفل عنه الكثير منا بسبب الانشغال بالجزء الغربي، وما يدريك لعلّ المنسيّ أكثر ثراء من المشتغل به.. جزا الله خيرا الأستاذ أحمد الشقيري الذي أمتعنا برحلته الموثقة إلى اليابان خاصة في الحلقات التي اهتمّت بعرض التجربة التعليمية فيه، فكانت أخاذة بحق، ويمكن القول بكل ثقة أن النجاح في التجربة التعليمية في اليابان هو أساس كل النجاحات الأخرى وليس العكس، فالنجاح في عالم الأفكار يسبق النجاح في عالم الأشياء...
أوّل ما يمكن ملاحظته في هذا الصدد هو الاهتمام بجانب القيم في التعليم. فالتعليم في اليابان يمشي جنبا بجنب مع الأخلاق والقيم الاجتماعية والثقافية للمجتمع الياباني. هذا ما لفت انتباه ماليزيا وجعلها تقتدي باليابان في الميدان التعليمي عوضا عن إتباع الغرب.
بعد هذا التقديم الوجيز الذي أثاره وثائقي ممتاز(قامت بإعداده التلفزة الكندية) وصل إليّ مؤخرا بفضل من الله العليم الحكيم، أريد أن أستخلص بعض الدروس منه كي يُستفاد منها في انتظار المزيد.
عنوان الشريط الوثائقي: أطفال ينبضون [وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]حياة وهو عبارة عن خمس حلقات صغيرة تركّز على تجربة معلّم ياباني في المستوى الإكمالي، يبلغ من العمر 57 عاما، ويؤمن بأنّ عمل المعلم يتلخّص في إيصال فكرة: أن الحياة ثمينة.
مما يمكن ملاحظته من خلال الشريط:
- حفاوة الاستقبال التي حظي بها المدرّس من قبل تلامذته في أول يوم دراسي من السنة الجديدة.
- ترسيخ معنى أن يكون الجميع سعداء وهذا بالضبط هو الهدف من دخول التلاميذ لقاعات الدراسة. وعلّق المعلّق الإنجليزي على هذا الموقف قائلا: هذا يبدو غريبا لأُذن الإنسان الغربي: أن يكون هدف القسم هو أن يفهم كيف يعيش حياة سعيدة، وكيف يهتم بالناس الآخرين.
- الجلوس الجماعي للتلاميذ والانتباه التام للمتكلم سواء كان تلميذا أو المعلم نفسه (الإحترام).
- تشجيع التلاميذ على التعبير بما يدور في جوانحهم من خلال تشجيعهم على كتابة تجاربهم الحياتية وتخصيص وقت لقراءتها على بقية الزملاء. ولهذه التجربة أهمية بالغة في تنمية الكثير من المهارات، كما أنّها أكثر ارتباطا بهدفهم: أن يكونوا سعداء. فالسعادة تستلزم أن ينعم بها الجميع وبالتالي تستوجب أن يساند التلاميذ بعضهم البعض ويحسوا بآلامهم، وباختصار تجعلهم يتخلصون من النزعة الأنانية ويصلون إلى مستوى يحبون فيه للآخرين تماما ما يحبونه لأنفسهم.
- فمن بين غايات المعلّم أن يصل بتلاميذه إلى الإحساس بآلام بعضهم البعض تماما كما يحسون بآلامهم الشخصية: "أترك الآخرين يعيشون في قلبك" وهذه أكبر فائدة لتلك الرسائل.
- المعلمون الأذكياء يقرنون المعلومات النظرية بواقع الحياة كي يسهل استيعابها.
- استطاع المدرّس أن يصل بتلاميذه –بعد مناقشات عديدة- إلى أن يفهموا معنى لوم الذات بدل إلقاء اللوم على الآخرين. وتجنّب الاستهزاء بالناس لأنّ هذا السلوك –بكل بساطة- يمنع المستهزئ به من أن يكون سعيدا.
- أهمية الصرامة في القسم لضبط بعد السلوكات الخاطئة وجعل التلميذ يكتشفها بنفسه (بمقارنتها مع هدفه الأوّل في المدرسة) ولو استدعى ذلك حصصا كثيرة من المناقشات، ومن ثمّ يتخلّص منها في بقية حياته.
- المهم هو زرع الثقة في النفس واحترام الآخرين من خلال مساندتهم دائما والوقوف بجنبهم، ومن خلال الإحساس بصعوبة التجربة التي يمرون بها كما لو كانت تجربة شخصية.
- هذه القيم وغيرها، من شأنها أن تنتج مجتمع كمجتمع النحل تماسكا وترابطا وبالتالي قوة وعطاء. وهي كذلك من شأنها أن تقيه من الكثير من المشاكل والصراعات. وكما هو معلوم فالتدريب الفعلي عليها أرسخ في النفس، على عكس مئات أو ألوف المحاضرات التي يمكن إلقاؤها حول الموضوع.
وهنا يجد القارئ تحليلا مفيدا لهذا الشريط الوثائقي وللتعليم في اليابان عموما في [وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]